فصل: سورة السجدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وما تدري نفس ماذا تكسب غداً}.. ماذا تكسب من خير وشر، ومن نفع وضر، ومن يسر وعسر، ومن صحة ومرض، ومن طاعة ومعصية. فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة. وهو غيب مغلق، عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب، لا تملك أن ترى شيئاً مما وراء الستار.
وكذلك: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار.
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة. وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس. ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غداً! بل ماذا يكون اللحظة التالية. وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله.
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة..
رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق. وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال: ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان. والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول.. وموضع الموت والدفن، وهو مبعد في الظنون.

.سورة السجدة:

.تفسير الآيات (1- 30):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر، ويركزها في القلوب: عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثرات خاصة؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، ومنحنياتها ودروبها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكن فيها من مشاعر، وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمل والتدبر؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها!
كذلك ترسم السورة صوراً للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها؛ وتعرض صوراً للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع.. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة: يبدأ بالأحرف المقطعة {ألف لام ميم} منبهاً بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به: {من رب العالمين}.. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون: افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه {لعلهم يهتدون}..
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة: قضية الوحي وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود: في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر.. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك.
والناس بعد ذلك قليلاً ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية: قضية الألوهية وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير، وصفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب: {وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد} ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة: قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة: {إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئاً ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم قبل فوات الأوان لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذ الأرض: إذا ذكروا بآيات ربهم: {خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}... وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}.. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضاً قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى عليه السلام ووحدة رسالته ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين.. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم: {متى هذا الفتح} وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرض عنهم ويدعوهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
{ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}..
{ألف لام ميم}.. هذه الأحر ف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار.
كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصراً مستكناً، يجعل لها سلطاناً وإيقاعاً في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفاً أن هذا قرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور.. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!
ألف. لام. ميم {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}.. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين.. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجهاً لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه، أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب، وصفا الحس، وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحاً كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطاباً مباشراً. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
{أم يقولون افتراه}..
ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلاً: {أم يقولون افتراه}.
هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال؛ فتاريخ محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلاً، ولا تدع مجالاً للريب والتشكك:
{بل هو الحق من ربك}..
الحق.. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.
الحق.. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة؛ وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.
الحق.. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.
الحق.. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.
الحق.. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملاً؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب.
الحق.. الذي لا يظلم أحداً في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.